حديث في المعرفة
يقلم : بيزيد يوسف .
ما فتئت بلدان العالم المتحضر تحقق تقدما في شتى المجالات و العلوم ، مستندة في ذلك على المعرفة ، و إذا كان علماء العلوم الإنسانية و السلوكية يصنفون المنهج المعرفي في الدراسة على انه منهج فردي في تقدير معايير و مؤشرات التطور و أنه انتقائي و حيوي ، لكنه ضروري فهو يمثل الذخيرة و الرصيد العلمي للولوج إلى عالم التكنولوجيات و السيطرة و التحكم ، إلا أنه يبقى دون شك كمقياس رئيسيي في تصنيف مدى تطور الدول و تقدمها . فـكلما زادت مقدرة الدول على التحكم في التكنولوجيا ، لا فقط امتلاكها كلما أصبحت أكثر مقدرة على اختراق عوالم التميّز العلمي و التكنولوجي و تجاوز حدود ما عبر القومية إلى مسارات أكثر تطورا في شتى الميادين ، و تبقى عوامل مثل المال و القوة و السلطة عبارة عن عوامل مدعمة و مكملة لا تستطيع أن تأخذ مكان المعرفة .
وبطبيعة الحال الإنسان هو جوهرها و لابد من فهم ماهية المعرفة .ولكن في البدء ما المقصود بها ؟.:-
المعرفة : هي " مجموعة من المعاني والمفاهيم والمعتقدات والأحكام والتصورات الفكرية التي تتكون لدى الإنسان نتيجة لمحاولاته المتكررة لفهم الظواهر والأشياء المحيطة به" .ويحلل " ليهر K.LHRER" كلمة يعرف " KNOW " في اللغة الإنجليزية ، حيث يوضح معاني هذه الكلمة على النحو الأتي :
- امتلاك صورة خاصة معينة من القدرة على عمل شيء ما .
- المعرفة باللقاء والاطلاع أو الاتصال المباشر .
و هناك تشابه في المعاني لكلمة " معرفة " بين اللغة العربية واللغة الإنجليزية فهي تدور في مجملها حول الإدراك والفهم .
و لقد طرح " فوكو " مفهوم المعرفة " EPISTEME " باعتبارها أيضا شبكة مفهومية تتضمن كل الأنماط المعرفية في حقبة زمنية معينة .
و تشمل المعرفة مجموع المعارف الروحية ، الوثنية ، الاقتصادية السياسية ، الثقافية والعلـمية فـي الوقـت نـفـسه ، لـذا تـوجد أنواع مختلفة من المعارف فإذا كان إدراجها ضمن فئات معينة قد شابه نوعا من الاختلاف بين المفكرين إلا أن هذا الاختلاف يعود بالدرجة الأولى إلى المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها صاحبها و هناك تقسيمات بمختلف المعارف و التي يمكن أن نذكر منها .
المعرفة العامية ، الدينية ، الميتافيزيقية " الفلسفية " ، السياسية ، التقنية و الإدراكية للعالم الخارجي ، معرفة ألاغيار- النحن – الجماعات –الطبقات – المجتمعات المدركة في واقعها والمثبتة صحتها بحكم واع ، معرفة الحس السليم .
كما أن هنالك أشكالا مختلفة للمعرفة هي كالآتي :
المعرفة العقلية ، التجريبية ، التنظيرية ، الوضعية و المد ركية ، الرمزية و المناسبة ، الجماعية ، الفردية .
أما العلم فيمكن تعريفه على أنه هو " منهج يسعى للوصول إلى مجموعة مترابطة من الحقائق الثابتة المصنفة والقوانين العامة .
و حتى لا نوغل في التعريفات فمجموع المعاني و المفاهيم و المعتقدات و الأحكام و التصورات الفكرية التي تتكون لدى الإنسان و تمكنه من فهم الأشياء و تحليلها هي المعرفة .و فهم حقائق الأشياء و مكوناتها إضافة إلى الدافعية التي تؤدي إلى نمو الروح العلمية و ذلك سعيا إلى تقنينها ،إضافة إلى حب الاستكشاف و البحث ،
و هما يعتبران من العوامل الحاسمة التي استطاعت المجتمعات الأوربية عبر تراكم زمني أن تصل إلى إدراك معانيها و مفاهيمها منطلقة من روح الحرية الذاتية أولا رغم القيود التي كانت تفرضها البيئة و السلطة الإقطاعية و الملكيات المستبدة على أفكار التحرر و الفلاسفة و العلماء و الفنانين، إلا أن حبهم لفهم الحقيقة جعلهم ينطلقون إلى البحث و الكتابة و تصور النظريات و المفاهيم لفهم العالم الميتافيزيقي و الواقعي و بالتالي تجاوز كل العراقيل و الحواجز .
و عبر فترات تاريخية مختلفة و في القرن الواحد و العشرين استطاعت البلدان الغربية أن تجسد النظريات الإنسانية و المعارف التجريبية على أرض الواقع و أن تعمل على تطويرها ميدانيا فالمعرفة العلمية معرفة جدلية تقوم على البرهان وإنتاجها يتم بشكل جماعي وأساسيا ، وليس إنتاج العلم مزاجيا أو فطريا ، فالنماذج والحلول المطروحة تخضع دائما لتقويم من طرف أفراد آخرين يقيمون هدفها المنطقي والتجريبي.. و استطاع العالم الغربي أن يشكل مجتمع المعرفة المؤسساتي ..عبر الجامعات و المعاهد و مراكز البحث العلمي .
و لكن لا تزال بلدان العالم الثالث تتخبط في متاهات لا حصر لها ، و ذلك نتيجة التخلف المزمن الذي يضرب بأطنابه في هياكلها و روحها .
و الإشكالية الجوهرية تتمثل في عدم الإدراك و الفهم لضرورة التغيير و الواقع ، و من ثمة غياب و تغييب المعرفة ، حيث أصبح الطالب و الأستاذ و الدكتور و رجل العلم و المثقف و كل فاعليات المجتمع و على رأسهم رجال السياسة صورة نمطية واحدة و أدوات و دواليب تسير على وقع إيقاع الحياة بسلبياته أكثر من ايجابياته ، لا عبارة عن آليات تدرك أهمية و ضرورة التغيير و فهم الأشياء و العمل على تكوين عقل مفكر و مدبر و مخطط ، يستطيع أن يبني و يرسم الإيديولوجيات و الاستراتيجيات ،أي لم يتحول الإنسان من موضوع معرفة إلى ذات عارفة بل و أصبحت الذات استهلاكية ليس فقط للمنتوجات المادية إنما كذلك للأفكار و المعارف . بينما هناك دول أخرى تخطت هذه المرحلة إلى ما يطلق عليه بالهندسة العكسية : تقليد –إنتاج – إبداع ، و ذلك مثلما حصل لدى بعض الدول كالصين و دول جنوب شرق آسيا مثل النمور و التنينات ، دون أن نذكر دول الغرب السباقة لذلك ، .بينما بقي العقل العربي أسير ماضيه و أحلامه و تصوراته ، و لم يسبر بعد أغوار المعرفة الحقيقية و لم يتقن فن الحفر و التنقيب في مكنونات المعارف أو حتى ترجمتها عمليا وفق ما يخدم مصالحه لا مصالح الآخر ، لأنه لم يمنهج فكره و لم يضع الضوابط و المحددات فهو يتخبط في بؤرة اللامعقول و المحدود و التبعية بشتى أنواعها و أشكالها الفكرية و المعرفية ..
|