في ذكرى وفاة بومدين ..
من اغتال بومدين ، كيف و لماذا..؟؟
بقلم : بيزيد يوسف
منذ أكثر من ثلاثين سنة ودّعت الجزائر الرئيس الراحل هواري بومدين فأنطفأ نور ساطع من الرعيل الأول من زعماء الحركات التحررية ، الرئيس الراحل هواري بومدين لا يزال ماثلا في المخيلة للجزائريين و لكثير من شعوب العالم وقادتها ، ليس فحسب كرئيس للجزائر بل كزعيم تحرري خلّدته مواقفه و شخصيته التاريخية الفذّة ، إذ أن الرّجل يحمل كلّ المواصفات الكاريزمية التي جعلت منه يحكم الجزائر في مرحلة هامة و حرجة جدا من تاريخها المعاصر لما بعد الاستقلال ، فقد استطاع أن يصل إلى السلطة عقب انقلاب أبيض أطلق عليه التصحيح الثوري و كان ذلك على رفيق دربه بالأمس الرئيس الراحل احمد بن بلة عندما رأى أنه حاد عن الدرب فيما أطلق عليه في بيان رسمي بالتصحيح الثوري قاده مع بعض من رفاق السلاح أثناء الثورة و منهم العقيد الطاهر الزبيري الذي تحدّث عن الكثير من تفاصيل محاولته الانقلابية لاحقا على هواري بومدين هو بدوره كذلك في كتابه نصف قرن من الكفاح أو مذكرات قائد أركان جزائري .كما أن مذكرات أخرى لقياديين جزائريين ممن عاصروا الرئيس الراحل هواري بومدين تحدثوا عن تفاصيل عديدة من حياته و تاريخه سنتحدث عنها لاحقا .
لقد تميّز بومدين منذ صغره بشخصية قيادية نادرة جعلت منه رجلا مميزا و زعيما فذا استطاع تحدي الكثير من الصعاب ،إلا أنّ الموت و مشيئة الخالق عجلّت بانتقاله الى الدار الآخرة ، حيث كان موته مفاجئا و صدمة للجزائريين و بكاه الكلّ حتى الأطفال منهم ، إذ رحل إلى الرفيق الأعلى بعد مرض أصابه و استعصى على الأطباء معالجته ، و لا تزال الى غاية اليوم الكثير من تفاصيله مجهولة حيث تعددت احتمالات و سيناريوهات كونه مات مقتولا و تحديدا مسموما انطلاقا من عدة فرضيات يمكننا الحديث عنها في هذا الملف مع موعد ذكرى وفاته . فمن هو بومدين ، من قتله ، كيف و لماذا ؟ هي أسئلة طرحت في العديد من المرات و تناولتها أقلام متعددة لكننا مجددا سنحاول البحث و الغوص فيها.
و لكن في البدء من هو بومدين ؟
إن طفولة بومدين لا يعرف عنها الكثير و لم تنل قسطها من البحث و الدراسة إلا ان ملمحها العام لا يختلف عن ملمح طفولة الجزائريين إبان الاستعمار من ويلات و معاناة فبومدين و هو الاسم الثوري له ، فقد عاش طفولة قاسية و اسمه الحقيقي محمد ابراهيم بوخروبة ، و هو ابن فلاح بسيط من عائلة كبيرة العدد و متواضعة الحال و ترجع أصوله عائلته إلى عرش بني فوغال التي نزحت من ولاية جيجل عند بداية الاحتلال الفرنسي .
ولد على الأرجح و بحسب بعض المراجع في 23 أوت 1932 في دوار بني عدي ( العرعرة) مقابل جبل دباغ ، بلدية مجاز عمار التي تبعد عن مدينة قالمة بضعة كيلومترات ، تتلمذ في صغره في الكتّاب – المدرسة القرآنية - و عمره أربع سنوات ثم في سن السادسة دخل مدرسة ألمابير في مدينة قالمة في العام 1938 و لا تزال هذه المدرسة موجودة لحد اليوم و تحمل اسم مدرسة "محمد عبده" فبينما كان يزاول تعليمه القرآني كان يدرس في المدرسة الفرنسية في نفس الوقت ، حيث حفظ القرآن و ختمه كاملا ثم أصبح معلما لأبناء قريته يعلمهم القرآن الكريم و اللغة العربية ، و بعدها توجه إلى المدرسة الكتانية في قسنطينة التي كانت تعد قبلة لطلاب العلم و خاصة في الشرق الجزائري وهناك درس على يد الشيخ الطيب بن لحنش .
عندما بلغ سن الثامنة عشر فُرض عليه التجنيد للخدمة العسكرية كما بقية الجزائريين الذين كانوا يُـعتبرون فرنسيين في الواجبات لا في الحقوق ، لكن هواري بومدين رفض و فر إلى تونس سنة 1949 ليواصل تعليمه في جامع الزيتونة الذي كان مقصدا للكثير من الطلبة الجزائريين و من تونس انتقل إلى القاهرة حيث التحق بجامع الأزهر الشريف ، و كان يُـعرف عليه تفوقه في دراسته و مثابرته .
التحق بجيش التحرير الوطني منذ اندلاع الثورة في الفاتح من نوفمبر 1954 ، و كان مسؤولا عسكريا في منطقة الغرب الجزائري ، و تولى قيادة وهران من سنة 1957 الى سنة 1960 ثم رئاسة الاركان من سنة 1960 الى غاية الاستقلال وفي شهادة تاريخية له يقول الرئيس الجزائري الاسبق الشاذلي بن جديد الذي خلف بومدين كرئيس من بعده في مذكراته في الجزء الأول الصادر عن دار القصبة للنشر سنة 2011 ما يلي :" التحق هواري بومدين بغار ديماو في ظروف صعبة ، لكن في وقت مناسب . و كان بومدين هو الرجل الذي أهلته الأوضاع أو الاقدار ليقوم بهذه المهمة ، لم نكن نعرفه ، لكننا نسمع باسمه ، و كان بالنسبة إلينا غريبا عن مشاكل الحدود الشرقية ...ذهبنا نحن قادة المناطق الثلاث أنا و عبد الرحمن بن سالم و الزين النوبلي إلى لقائه بغار ديماو بعد تنصيبه على رأس قيادة الأركان في النصف الأول من سنة 1960 ،لاحظنا الفرق بينه و بين محمدي السعيد , استمع باهتمام إلى عروضنا عن الوضعية السائدة في القاعدة الشرقية ، كان يصغي أكثر مما يتكلم ، يستفسر أكثر مما يجيب ، يستأنس بالرأي الاخر أكثر مما يأمر . اقتنعنا في الأخير أن الرجل مُخْلِص و وطني حتى النّخاع ، و يملك نظرة بعيدة عن الأهداف و الوسائل ...
و يضيف الشاذلي عن تولي بومدين لهيئة الاركان أثناء الثورة التحريرية :"...و نجح بومدين في فرض الانضباط و النظام ، و أصبحت الوحدات تخضع لقيادة موحدة و ممركزة بعد ما كانت في السابق تدين بالولاء إلى مسؤوليها المباشرين ،و بعد أن سلمت له الحكومة المؤقتة وحدات الولاية الثانية و الثالثة و الرابعة المجمدة على الحدود قام بومدين بمزج الجنود و الضباط ، و نجح في تكوين جيش عصري جيد التدريب و التسليح ثم نشره في المناطق الشمالية للعمليات ...و إلى وضع حد إلى عقلية أسياد الحرب التي نتجت عنها تمردات خطيرة ."انتهى.
و من دون ريب لقد استطاع بومدين أن يحقق تحولا نوعيا في صفوف جيش التحرير الوطني و هذا ليس بشهادة الشاذلي بن جديد لوحده بل بشهادة الكثير ممن رافقوه في درب الكفاح المسلح حيث يعتقد البعض أن بومدين كان قياديا نخبويا لم يشارك في القتال ، لكن الواقع يقول بأنه كان العقل المدبر للكثير من العمليات العسكرية الميدانية و شارك فيها ،الأمر الذي جعله يكسب ثقة رفاقه في السلاح .و قد عيّـن بعد الاستقلال وزيرا للدفاع إلى غاية أن أصبح رئيسا للجزائر في سنة 1965 .
لقد تميّز بومدين بخصائص عديده يعرفها المقربون منه و منهم الشاذلي بن جديد الذي يقول عنه "بومدين كما عرفته " في وصف دقيق له :"...عرفت هواري بومدين في الربع الأول من عام 1960 ، و بالضبط في شهر فيفري ،آنذاك بدأ نجمه يسطع بعد التحاقه بغار الدماء، قادما اليها من هيئة أركان الغرب ... مضى على ذلك الوقت خمسة عقود كاملة ، و ما زلت أذكره كما رأيته لأول مرة .
كان نحيفا ، طويل القامة ،أشقر الشعر ،غائر الوجنتين ،أسودت أسنانه من التدخين ،فقد كان يشعل السيجارة من أختها .
كان مثل الناسك ،متقشفا في أكله ،متواضعا في ملبسه ، تخاله حين تنظر اليه وسط الجنود أنه واحد منهم ، و رغم ما يبدو على ملامح وجهه من صرامة و جدية ،إلا أنه خجول إلى درجة الحياء .
كان بومدين شخصية منطوية على نفسها ،كتومة و خجولة ، قليل الحديث يستمع أكثر مما يتكلم ، لا يتسرع في اتخاذ القرارات و يشاور المقربين منه ، و لم يكن مستفردا بالرأي كما يشاع عنه ، لكنه في الوقت نفسه كان فعالا و صارما حين يتعلق الامر بمصلحة البلاد ،أما في حياته الشخصية ، فقد كان متواضعا يرفض حياة البذخ و المظاهر الخادعة ،هذه هي الصورة التي احتفظت بها عنه أثناء عملي في المنطقة الشمالية للعمليات ، و حين أصبح وزيرا للدفاع ، و عندما تولى منصب الرئاسة . و لم يتغير في الجوهر الى أن رحل عن هذه الدنيا ." انتهى.
وصول بومدين للحكم
فعلا كانت مؤهلات بومدين القيادية عالية جدا و طموحاته كذلك فلقد استطاع بومدين أن يصل إلى الحكم عن طريق انقلاب عسكري أطلق عليه لاحقا " التصحيح الثوري" حيث بدأ الخلاف يزداد بين أحمد بن بلة و وزير الدفاع هواري بومدين و كانت مجموعة من القيادات العسكرية قد لاحظت انفراد بن بلة بالحكم و خاصة أن تلك الفترة كانت مرحلة حرجة من تاريخ الجزائر و ها هو العقيد طاهر زبيري في مذكراته نصف قرن من الكفاح و هو أحد مدبري الانقلاب يحدثنا عن تفاصيل الخلاف إذ يقول : " تحول انتقاد سياسة بن بلة لإجماع بضرورة الاطاحة به و القضاء على سياسة الحكم الفردي التي يتبناها ، و ذلك بعد جس النبض الذي قام به بومدين و جماعة وجدة للإطارات السياسية و العسكرية للدولة ، و قبل أيام معدودة من انعقاد المؤتمر الافرو- أسياوي دخل ستتنا" يقصد العقيد طاهر زبيري ب "ستتنا" هو وعبد العزيز بوتفليقة و أحمد مدغري و قايد أحمد و شريف بلقاسم و شابو زائد كل من سعيد عبيد و يحياوي و العقيد عباس "أي 6+3 و يضيف :"اجتمعنا لمناقشة الوضع في دار بومدين و كان قايد أحمد أكثر المنتقدين لبن بلة بينما ظل بومدين صامتا ، و عبر الباب السري ولجنا دار الطيبي العربي في غرفة سرية خاصة بهذه الاجتماعات ...اتفقنا في هذا الاجتماع على أن تكون ليلة 19 جوان 1965 تاريخا لإنهاء الحكم الفردي لبن بلة ...و يضيف :" كان يوم 18 جوان 1965 طويلا و ليله يكاد لا تُعرف له نهاية ، القلق كان يراودنا جميعا رغم محاولتنا اخفاءه , بعد ليلة ستعاد كتابة التاريخ لنا أو علينا لأن المنتصر عادة هو من يكتب هذا التاريخ ... بومدين كان أكثرنا قلقا ، فهو العقل المدبر للجماعة ، و أي خطإ صغير قد يفشل كل شيء. لم يكن مطمئنا بتاتا...كان بومدين قلقا من حدوث السيناريو الكارثي لذلك طلب مني أن أقود عملية إلقاء القبض على بن بلة بنفسي ، و قال لي :" يجب أن تذهب أنت " .انتهى
على أن مذكرات الطاهر الزبيري لا تختلف كثيرا عن بعض المذكرات الأخرى التي أرّخت لهذا الحدث التاريخي الذي كان يوصف بالتصحيح الثوري .
و من ثم تم القاء القبض على بن بلة الذي كان يرتدي ملابس النوم و قد هم الى فراشه لكن الأقدار كانت تُـخفي له الكثير ففي فجر 19 جوان 1965 تمت مداهمة بن بلة و عزله عن الحكم ليشهد فجر ذلك اليوم عهدا جديدا من حكم بومدين .
لقد كان بومدين وزيرا للدفاع لكنه رأى أن انفراد بن بلة بالحكم يشكل خطرا على الجزائر و لذلك تم الانقلاب عليه إذ أن بومدين في حد ذاته شخصية ثورية و تجلى ذلك في مواقفه أثناء الثورة التحريرية و حتى بعد الاستقلال فيما عرف بحرب الرمال بين الجزائر و الشقيقة المغرب سنة 1963 و اشتهر بمقولته :"كل حبة رمل حررناها ملك للجزائر " و كان بومدين في جبهات القتال يدير العمليات كوزير للدفاع و كانت خبرته الميدانية قد أهلته فعلا لتحقيق نصر مؤزر إذ أكسبته شعبية كبيرة و تأييد من قبل العسكريين إضافة الى تمكنه من السيطرة على حركات التمرد في الجنوب بقيادة العقيد شعباني و كذا حركات التمرد في منطقة القبائل إذ كانت مسؤولية وزارة الدفاع صعبة جدا في ظل تلك الظروف التاريخية التي عاشتها الجزائر غداة الاستقلال بيد أن بومدين بحنكته تغلب عليها ، و هو ما سهل من وصوله للحكم و الانقلاب على بن بلة لاحقا .
أما الشاذلي بن جديد فيتحدث عن هذا الحدث في مذكراته قائلا :" و لعل من الخطأ الاعتقاد أن الخلاف بين الرجلين يعود الى اختلاف في الطبائع أو تنافر الامزجة .فأسبابه تكمن أساسا في تضارب الرؤى و التصورات حول القضايا التي طرحت بعد الاستقلال و طرق حلها ، لقد كانت الازمة في البلد عامة ، و مست مظاهرها كل مناحي الحياة ، و كانت الجزائر آنذاك تشبه بركانا خامدا ينذر بالانفجار في أية لحظة" انتهى .
انجازات بومدين ،،
بعد أن تخلص بومدين من خصومه بدأ يدير دفة الحكم من خلال رسم استراتيجية دقيقة تقوم على المخططات السياسية و الاقتصادية فلقد شيّد بومدين صروح الدولة الجزائرية المعاصرة مباشرة بتوليه السلطة و على الرغم من أنه لم يتم انتخابه الا بعد سنة 1975 إلا انه كان يحكم الجزائر انطلاقا من مبدأ الشرعية الثورية الذي كان سائدا في العالم آنذاك .
و قد تمكن من ترتيب السياسة الداخلية من خلال بناء مؤسسات الدولة السياسية و الاقتصادية و سيما أن التحديات كانت جسام تنطلق من الزراعة الى الصناعة ثم الى الثقافة .
لقد بدأ بومدين بقطاع الزراعة من خلال ما أطلق عليه الثورة الزراعية و الأرض لمن يخدمها و بناء الف قرية و قرية للفلاحين و توزيع آلاف الهكتارات على الفلاحين و الرفع من مستوى معيشتهم .
فلقد عمل المستعمر مدة عقود من الزمن على القضاء على البنية الاجتماعية و الاقتصادية للدولة الجزائرية و عمل على تثبيت نظام الخمّاسة و قد عانى الفلاح الجزائري الأمرين و بالتالي كانت استراتيجية بومدين هي إعادة الكرامة له أولا و من ثمة عمل على إنشاء مشروع ألف قرية و بناء السد الأخضر و زيادة نوعية و كمية الانتاج الزراعي و أصبح من المعروف عن بومدين طموحه و مقولته بأن الجزائر ستصبح يابان الوطن العربي و قد أوكلت مهام التشجير من خلال السد الأخضر للشباب الجزائري من الذين كانوا يقومون بالخدمة الوطنية و بدأت فعلا الجزائر تتخلص من التبعية الزراعية للخارج رغم المشاكل الموروثة عن الاستعمار.
بل و أبعد من ذلك قام العقيد هواري بومدين بإنشاء مئات المصانع للصناعات الثقيلة و التي ساهم ببنائها خبراء من الشرق و الغرب و من أبرز ما قام به تأميم المحروقات في العام 1973 و هو ما أعطى قفزة كبيرة للاقتصاد الوطني .
لقد كانت الجزائر دولة فتية و لذلك بدأت عملية بناء مؤسسات الدولة و وضع الدستور و الميثاق الوطني و الاهتمام بالقواعد الجماهيرية و تعليمها و تثقيفها مما ساهم في استقرار و تثبيت دولة المؤسسات.
بومدين و السياسة الخارجية،،
عُـرف عن بومدين مناصرته للقضايا التحررية في العالم بدءا بالقضية الفلسطينية حيث شاركت الجزائر في حربي 1967 و 1973 و قدمت دعما كبيرا في عهد الرئيس بومدين لهذه القضية و بعده من خلال المشاركة الفعلية و الدعم المتواصل و المؤازرة في المحافل الدولية إضافة الى مشاركة الجزائر في جبهة الصمود و التصدي ،و اشتهر بمقولته " نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة ".
كما أن القضايا التحررية في الكثير من بقاع العالم كانت الشغل الشاغل له و محط أنظار الدبلوماسية الجزائرية من خلال المساهمات في حركة عدم الانحياز و منه مطالبة الرئيس الراحل في مؤتمر الحركة الرابع المنعقد بالجزائر في العام 1973 بضرورة نظام اقتصادي دولي جديد و عادل يقوم على أساس العلاقات الاقتصادية المتكافئة بين دول الشمال المتقدم و دول العالم الثالث في الجنوب و هو ما طرحه في هيئة الأمم المتحدة في سنة 1974 ، بل و من خلال مناصرة الجزائر لقضايا التحرر حتى قيل أن الجزائر قبلة الثوار و قد احتضنت قضايا افريقيا و آسيا و غيرها من قارات العالم .
بدورها كانت قضية الصحراء الغربية الشغل الشاغل للجزائريين وتحديدا الرئيس الراحل هواري بومدين حيث اعتبرها قضية تصفية استعمار و وفر لها الدعم اللازم. و الملفت للانتباه أن بومدين كان يتميز بمواقفه الثابتة و أعطى للجزائر سمعة جيدة على المستوى الخارجي و في المحافل الدولية.
من قتل بومدين ؟. كيف.. ؟ و لماذا ؟.
رحل هواري بومدين عن الحياة الدنيا بعد مرض عضال ألمّ به وقد استعصى علاجه و عجز الأطباء عن تشخيصه لأنه قلّ شبيهه ، فقد كان يُعْتَقد بأن بومدين كان مريضا بسرطان "والدن ستروم" بعد التحاليل الطبية للمثانة ، و كان الطبيب السويدي مكتشف الداء قد جاء بنفسه للجزائر لمعالجته و لكن تبين بأنه مصاب بداء آخر و قد ذكر الرئيس الاسبق الشاذلي بن جديد في مذكراته قائلا :" ثم تقرر نقله الى موسكو للعلاج ، لقد فضل هذه المدينة على واشنطن و باريس لأسباب أمنية ...لكن المرض استفحل و بعد عودته من موسكو استقبل أعضاء مجلس الثورة و الحكومة في فيلا "دار النخيل " لم يعد بومدين هو ذلك الذي عرفته ،ازداد نحالة ، و فقد حيويته و بريق عينيه ، و لم يعد يقوى على الكلام ، و كانت رجلاه متورمتين ، و حين صافحته أمسك بيدي مطولا و كأنه يريد أن يقول لي شيئا ....و وافته المنية في 27 ديسمبر من العام 1978 و تلا رحيله نزاع محموم على السلطة كاد أن يعصف بأركان الدولة ...لقد شعرت بأنني فقدت رفيقا في السلاح و صديقا غاليا عليّ .كان همه الوحيد تحرير البلاد من الاستعمار و بناء جزائر تنعم بالعالة الاجتماعية و الرفاهية ..." انتهى .
و قد وُضع أكثر من احتمال و وضعت العديد من الفرضيات حول موت الرئيس الراحل هواري بومدين إثر المرض الغريب الذي ألم به و استعصى على أمهر الأطباء الروس و العالميين الكشف عنه ، مما جعل البعض يشكك في فرضية موته مسموما ، إذ لمّح وزير شؤون رئاسة الجمهورية و الخارجية العراقية الأسبق حامد الجبوري في تصريحاته إلى أن هواري بومدين قتل مسموما بعد زيارته إلى بغداد ، و في طريق عودته من دمشق . حيث صرح الجبوري ، إنه رأى كيف تحول الرئيس بومدين إلى "شبح" بعد أن أثر فيه " الليثيوم " و فعل فعلته ، و أوضح قائلا :"لقد بدأ بومدين يضعف إلى أن تحول إلى شبح ، و تساقط شعره و أصبحت عظام جسمه هينة إلى الحد الذي باتت تكسر بسهولة تامة " و أضاف "أنا على علم بما أصاب الرئيس بومدين ، ربما سمم بنوع فتاك من أنواع السموم اسمه الليثيوم " قائلا :" لقد رأيت حالات مشابهة لحالته في العراق ، و الموت مصير كل من يتناول هذا السم ".
لكن طبعا هذا التصريح الذي يتهم الرئيس السابق للعراق صدام حسين يتطلب اكثر من تحقيق لأن الجبوري كان قد أبعد عن الحكم من قبل الرئيس العراقي السابق صدام .
و في حيثيات قضية تسميم بومدين كذلك تحدث السوري العماد مصطفى طلاس في حوار مع بعض الصحف الجزائرية في العام 1996 واتهم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بتورطه في تسميم بومدين مؤكدا أنه ثبت تسميمه لكن البعض الآخر ينظر إلى هذا الاتهام في خضم الصراع الذي كان قائما بين بغداد و دمشق .
و في العام 2007 من شهر ديسمبر شبه الرئيس الأسبق الشادلي بن جديد وفاة بومدين بوفاة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عام 2004 مما يعني شبه اقرار بهذه الفرضية.
غير أن المثير في القضية كما ذكرنا سابقا أن حامد الجبوري و عبر قناة الجزيرة في سنة 2008 ذهب مجددا الى فرضية تورط نظام صدام في الاغتيال و التسميم و كذا اغتيال وزير الخارجية الجزائرية محمد الصديق بن يحي عام 1982 بعد سقوط طائرة الوفد الجزائري من خلال شظايا صاروخ باعته روسيا لبغداد و اثبتت التحقيقات أن صاروخا عراقيا من نوع جو- جو قد انطلق من الاراضي العراقية و بتحقيق الرقم التسلسلي للصاروخ ثبت أنه بيع إلى العراق ضمن صفقة أسلحة و كان محمد الصديق بن يحي في زيارة للمنطقة للتوسط بين طهران و بغداد لإنهاء الحرب .
لكن العقيد أحمد بن شريف صرح أن بومدين من المرجح قد سُمّم أو قُـتل بأيدي جزائرية و هو ما يدحض المزاعم السابقة عكس ما كان رائجا بأن بومدين سُمّـم من قبل النظام العراقي السابق نظرا لكون بومدين في نظر صدام حسين منحازا لشاه ايران في اتفاقية ترسيم الحدود بين ايران و العراق سنة 1975 و كان يعتقد أن الجزائر تحت تأثير الولايات المتحدة و تحديدا كاتب الدولة الامريكية "وارن كريستوفر" و قد كان صديقا وفيا للجزائر و لرئيس دبلوماسيتها آنذاك عبد العزيز بوتفليقة ، علما أن العقيد بن الشريف كان ضابطا في الثورة التحريرية و أحد أعضاء مجلس الثورة الجزائرية و كان بومدين يثق فيه ثقة كبيرة و على علم بالكثير من الملفات الثقيلة . بينما يرى محللون آخرون أن الحقيقة كانت في يد أمين سر الرئيس الراحل بومدين الرائد جلول الذي تم إبعاده حيث أغتيل بطريقة بشعة بالساطور و عثر على جثته في 2 جانفي 2009 بشارع الشافعي ببلدية المرادية قرب رئاسة الجمهورية و قد كان محل ثقة كبيرة من قبل بومدين و هو عسكري سابق في الأمن الرئاسي لبومدين ، و لذلك فهناك من يذهب إلى أن تصريحات العقيد بن شريف قد لا تكون صادقة تماما إنما هي تداعيات لمشاهد سياسية ،لأن ذلك يعني أن المقربين من بومدين هم في دائرة الشكوك كالشادلي بن جديد و رابح بيطاط و غيرهما و هو ما لا يذهب إليه الكثير من المحللين و المؤرخين في هذه الجزئية و القضية بالذات ،و قد كان قائد قوات الدرك الجزائرية سابقا العقيد أحمد بن شريف قد قال بأن بومدين مصاب في جهازه البولي الذي كان يُخرج دما ، و أن الرئيس بومدين أصيب بالمرض بعدما تلقى هدية و هي عبارة عن كلبين من سلالة دنماركية و قد ماتا مسمومين ، و الغريب في الأمر أن الأطباء الروس وجدوا عند الكلبين نفس الأعراض الموجودة عند بومدين ، و لكن السؤال الذي يطرح من أهدى الكلبين للرئيس بومدين ؟. و هو ما لم يجيب عليه العقيد أحمد بن الشريف و لا غيره .
كما أن كتاب محي الدين عميمور " أنا و هو وهم " الذي عمل مع الرئيسين بومدين و الشادلي كمستشار أكّد أن التشخيص الأولي للورم كان في المثانة ، لكن الجميع يجمعون على أن وفاته لم تكن طبيعية و هذا ما أكده كذلك أحمد طالب الابراهيمي و أحمد بن شريف و عميمور ، و غيرهم حيث يبدو أن احتمال استعمال السم وارد إلا أن الملفت للانتباه أن محي الدين عميمور يشير بشكل مثير في كتاباته إلى فرضية استعمال كاميرات تطلق أشعة معينة هي التي تسببت في مرض الرئيس بومدين و بحسبه يحتمل حدوث ذلك في عاصمة السودان الخرطوم ، و بحسبه فإن المشتبه به الأول هو الموساد بالتعاون مع مخابرات لدول أخرى .
و لكن تبقى فرضية أن رفاق بومدين هم من اغتالوه مستبعدة و خاصة بعد فشل آخر محاولة انقلابية و عملية اغتيال لبومدين في الجزائر و التي أصيب فيها سائقه الخاص و التي دبرها الرائد عمر ملاح بحسب تصريحه لجريدة الشروق الجزائرية في 9 أكتوبر 2011 حيث اعترف بأنه كان وراء التخطيط و التنفيذ لمحاولة اغتيال العقيد هواري بومدين بعد حركة تمرد 14 ديسمبر 1967 و التي نجا منها بأعجوبة و كشف أن رئيس الحرس الجمهوري و الشرطة أحمد درارية و محافظ الشرطة كانا مؤيدين لفكرة تنحية بومدين و عند دخول عمر ملاح الى العاصمة بعد معركة "العفرون " إثر تمرد العقيد الطاهر الزبيري اتفق مع ضابط من عين ياقوت بباتنة بتدبير عملية اغتيال بومدين و قام أحد المكلفين بإطلاق النار على بومدين يدعى "بورزان" فأصابت رصاصة شارب بومدين و الثانية أصابت سائقه و نجا بومدين و قُـتل منفذ العملية .
و من ثمة يبدو أن كشف النقاب لابد أن يستوفي حقه من البحث و التنقيب و إن كان يبدو ما زال مستبعدا لكنه غير مستحيل، إذ تستند أغلب التقارير على تصريحات عربية و وطنية في ظل غياب شبه كامل لتصريحات المسؤولين السياسيين السوفييت الذين عايشوا فترة بومدين ممن لهم علم بقضية مرضه ، و كذلك في ظل غياب تصريحات غربية تبقى تفاعلات القضية منقوصة و غامضة ، و مع ذلك يمكننا أن نتساءل ألا يحق للشعب الجزائري بعد أكثر من ثلاثة عقود أن يعرف حقيقة موت رئيس و زعيم مثل الرئيس الراحل بومدين ؟ أما ان ذلك سيتطلب بدوره ردحا من الزمن و يبقى من الطلاسم التي يصعب الكشف عنها ؟.
|