الحرب في مالي .
بين خارطة التغيير السياسي-الديمغرافي و رهانات الأمن القومي
بقلم : بيزيد يوسف .
منذ عشر سنوات تقريبا مضت قال أحد السياسيين الأفارقة البارزين:" إن سمفونية الحرب قد باتت جاهزة في شمال إفريقيا و لكنها لا تزال تنتظر من يعزفها " ،،
و اليوم قد دقت طبولها إنطلاقا مما أطلق عليه الحرب ضد الإرهاب و القاعدة في مالي ،،
و الواقع ان هذه الأزمة تبلورت و أنتجت صراعا جديدا نظرا لمجموعة من العوامل الرئيسية التي جعلت من منطقة صحراوية في شمالي مالي ذلك البلد الفقير و الذي أصبح محط أنظار القوى الكبرى و طرفا فاعلا في الصراع الجيواستراتيجي .
دون ريب لهذه الأزمة عمق جوهري ينطلق من ترتيب خارطة قوى جديدة و مصالح إستراتيجية لها مفهومها و منطقها و من ثمة يبدو أن أبعاد و تداعيات الصراع يمكن أن تنطلق من تحليلين رئيسين ،، أولهما داخلي - إقليمي و الثاني دولي ،،
بيد أنه قبل الحديث عن الأسباب و الأبعاد و التداعيات يجب التطرق لأطراف الصراع و ميدان الصراع ، بحيث يبدو للوهلة الأولى أن الصراع له أهداف و مرامي عديدة و خاصة مع تعدد الأطراف، حيث أصبحت مالي في الإستراتيجية العسكرية طرفا و وسيلة للصراع في ذات الوقت ، و خاصة فيما يتعلق بمسألة الحدود مع الجزائر ، :
جدلية الصراع الداخلي و الإقليمي :
إن هشاشة بنية الدولة في مالي منذ خروج الإستعمار الفرنسي في الستينات و لحد اليوم ، إضافة إلى التهميش الكبير الذي تعرضت له مناطق الشمال ذات الإختلاف الاثني مع جنوب مالي جعل منها منطقة إرتطام يمكن أن تكون بؤرة توتر فاعلة و خاصة بعد تمرد الجيش في العام 2012 م ، و الذي أدى إلى إنقلاب و أتاح الفرصة للحركات المتواجدة في شمال مالي للمطالبة بالإنفصال ,, و من ثمة كانت الفرصة مواتية لظهور أطراف الصراع للمطالبة باقتسام الثروة و السلطة .
بيد أن سيناريو الأحداث لم يسير وفق هذا المسار ، لأن المصالح مختلفة و كل طرف له هدفه إضافة إلى عملية تدويل القضية ،،و الأبعاد الجيواستراتيجية لها.
و دون ريب كذلك فإن بروز بعض الحركات الإسلامية المتشددة للمطالبة بإقامة دولة منفصلة و عدم الإعتراف بالقرارت الأممية أو حتى المقاربة الدبلوماسية زاد من تعقيد المسالة ,,
و يبدو انه ليس بالغريب أو المستغرب ممارسة سياسات الترهيب و الدم المسفوح الذي كانت تلجأ إليه هذه التنظيمات المتشددة في مناطق سيطرتها و في توظيف عملياتها و لعلّ سنوات العشرية السوداء التي عاشتها الجزائر كانت أبرز دليل على ذلك و لا يتسع المجال لوصف بشاعة المجازر التي راح ضحيتها حوالي مائتي الف جزائري و ما ترتب عنها من تنظيمات للجماعات المسلحة تعرف بدمويتها و التي تفرعت و تشعبت لاحقا و لا تعدو أن تكون بعض الجماعات منها إلا امتدادا لتنظيم القاعدة ،مما زاد في طموحات و رغبة بعض القوى للتدخل لمحاربة الارهاب و الذي أتاح لها الفرصة عن قصد أو غير قصد ، علما أن هذه التنظيمات و خاصة المتشددة في غالبها تنشط ضد القوى الغربية و قامت بعمليات ضدها سواء في الجزائر أو موريطانيا أين يوجد لها إمتداد إقليمي تنظيما و تمويلا و تسليحا و في بعض المناطق الأخرى من العالم ، و يبدو أن الكثير من وسائل الإعلام الدولية تؤكّد في تقاريرها إستنادا إلى تقارير إستخباراتية أن هذه الجماعات أصبحت أكثر تنظيما و تسليحا و خاصة بعد تهريب كميات كبيرة من الأسلحة بعد الصراع الذي حدث في ليبيا و منها الأسلحة الثقيلة مع العلم أن بعضا من الطوارق كانوا قد شاركوا في الحرب في ليبيا ثم عادوا إلى شمال مالي ،و من ثمة فإن المنطقة باتت قاعدة حقيقية لهذه التنظيمات و من المعروف عنها أنها أصبحت منطقة سادسة في التقسيم العسكري لتنظيم القاعدة أي منطقة الصحراء الكبرى ,
و لو حاولنا إسقاط الضوء على أهم التنظيمات التي شاركت في تفعيل الأزمة في مالي فنجد هذه التيارات الأربعة الرئيسية :و هي :
1- الجبهة الوطنية لتحرير أزواد و هي حركة وطنية لا علمانية ولا إسلامية ، كانت توصف باليسارية عندما كانت لهذه الكلمة معنى أيام الحرب الباردة ، لها تاريخ نضالي طويل في المنطقة تحمل مطالب ثقافية كالحركة الأمازغية في الجزائر وتحلم بدولة التوارق ومناهضة لعنصرية السود، لها علاقات دولية ساعدتها وتساعدها الجزائر بعدة أشكال كما يرى ذلك بعض المحللين،و عشية إنطلاق العملية الفرنسية في شمال مالي إنسحبت معظم عناصرها إلى دول الجوار، و كانت وفاة أحد أبرز زعمائها العسكرين آغ بهنقى من أسباب الأزمة وضعف الحركة .
2- حركة أنصار الدين يمكن وصفها بالحركة الإسلامية المتشددة والمتورطة في التحالف مع جماعات إرهابية تعتبرها الآن الجزائر حركة إرهابية بعد رفضها الحوار وهجومها على جنوب البلاد،و كانت تسير نحو المقاربة الدبلوماسية التي طرحتها الجزائر لكنها تخلت عنها لاحقا و إنضمت للجماعات المتشددة في الهجوم على مناطق وسط مالي ، و قد إنشق عنها مؤسسها اياد آغ غالي وهو الذي طعمها بالفكر المتشدّد و يذكر أنه كان قنصلا بجدة بالسعودية .
و الحركة شبيهة بحركة طالبان متهمة بإرتكاب عدة تجاوزات في حق سكان المنطقة تحت شعار تطبيق الشريعة و قطع الأيدي والأرجل بطريقة بشعة وإغتصاب النساء على أنهم سبايا وتهديم الأضرحة وبعض المعالم الاسلامية مثلما حدث في تومبكتو كما تشير التقارير. و قد ذهب البعض إلى فرضية إتهام بعض دول الخليج بتمويلها .
3- التوحيد والجهاد و هي حركة إرهابية من فلول تنظيم القاعدة متورطة في إعتداء تمنراست الإرهابي، نفذت أول إعتدائها بخطف رعايا إسبان من مخيمات اللاجئين الصحراويين بتندوف متهمة بأنها صنيعة المخابرات المغربية .
4- القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي لا تحتاج الى أي تعريف ،إذ أن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي و الذي يعتبر منطقة الصحراء الكبرى المنطقة السادسة التي تحولت قيادتها إلى "يحي أبو الهمام" حيث قام زعيم تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، عبد المالك دروكدال والمعروف بأبي مصعب عبد الودود، بتعيين الجزائري جمال عكاشة، والمعروف بيحيى أبو الهمام والبالغ من العمر 40 عاما، أميرا جديدا للتنظيم في منطقة الساحل والصحراء خلفا لنبيل المخلوفي الأمير السابق والذي توفي خلال الأشهر الماضية. و قد تحوّل نشاطه إلى منطقة الصحراء و خاصة بعد وقوع إنشقاقات في صفوفه و ظهور جماعات جديدة مثل كتيبة الملثمين التي يتزعمها مختار بالمختار المدعو في الجزائر –الأعور- و الذي إستطاع أن ينقل نشاط هذه الجماعات من داخل الجزائر إلى شمال مالي بعد تقلص عمليات هذا التنظيم في المناطق الجبلية في المرحلة الثانية بعد المرحلة الأولى و هي مرحلة المدن حيث شهدت إخفاقا كبيرا في الجزائر لتبدأ مرحلة الصحاري ، و ذلك نظرا لضربات قوات الأمن الجزائرية بمختلف أجهزتها و إحترافيتها العالية في محاربة الإرهاب و خاصة الجيش الوطني الشعبي و هذا ما تبيّن جليا عقب عملية تيقنقورين في عين امناس و التي أدت إلى فشل العمليات التي كانت تهدف إلى زعزعة الأمن في المنطقة . وخاصة أن تنظيم الملثمين أو ما يعرف بالموقعين بالدماء أراد توجيه رسالة للقوات الفرنسية المشاركة في الحرب على مالي و إلى الجزائر و بقية دول العالم و كان يمكن أن تقع كارثة لولا إحترافية الجيش الوطني الشعبي الذي تعامل بدقة مع العملية أذهلت دول العالم . كما لا ينسى الهدف الرئيس لهذا التنظيم من وراء عمليات الإختطاف و ما يصاحبها من فدية ، و خاصة أن "مستر مارلبورو" كما يطلق عليه مختار بالمختار أو الأعور أصبح يمتلك من التجربة و الخبرة في إدارة هذه العمليات الكثير ،،
البعد الدولي بين خارطة التغيير السياسي-الديمغرافي و رهانات الأمن القومي:
لقد كانت قاعدة الإمتداد الإثني و قدسية الحدود من أهم القواعد المتعارف عليها في العلاقات الدولية عقب حركة الإنتشار الإستعماري الذي عمل كل ما في وسعه من أجل السيطرة و الهيمنة العسكرية على المناطق المحتلة و ذلك وفق اتفاقيات و مؤتمرات متعاقبة شهدها العالم في القرنين التاسع عشر و العشرين و التي أنتجت دولا مجزأة بحدود وهمية فرّقت بين القبائل و الإثنيات التي تسكن هذه المناطق و التي كانت لأمد طويل سببا في نشوب نزاعات و خاصة في القارة السمراء ، و يبدو أن الشعور المتزايد بالظلم من قبل سكان شمال مالي و خاصة في أقاليم "كيدال" و "غاو" و "كيدال "و التي تحتل جزءا كبيرا من مساحة مالي البالغة في مجملها : 1,240,192 كم2 أما عدد سكانها فيبلغ : 14,517,176نسمة و قد اخذت مسألة التنوع الاثني و الديمغرافي تتفاقم في شمالي مالي و خاصة مع غياب سياسة تنموية جادة و واضحة و بمساعدات دولية و لكنها لم تفلح ، مما أدى إلى فقر كبير إضافة إلى شعور سكان المنطقة بالتهميش غير أن قرب هذه المناطق من الحدود الجزائرية و الموريطانية جعلها تفك بعضا من العزلة ، و هو ما أدى إلى تنامي الطموحات الإنفصالية و خاصة أن المنطقة غنية بثرواتها و خاصة البترولية و التي تعمل بها بعض الشركات الأجنبية و منها الفرنسية و خاصة شركة –أريفا – و التي عانت من سلسلة إختطافات عمالها و وجدت صعوبة في تحرير الكثير منهم ، و من ثمة فإن الخيار العسكري أصبح ملحا على باريس بحيث يخدم عدة مصالح بالنسبة لها في المنطقة ..
و في المقابل كان ينظر للجزائر على أنها طرفا رئيسيا في إدارة الأزمة نظرا لمعرفتها بالمنطقة من جهة و من جهة أخرى تقع في منطقة حدودية مع مالي و بالتالي فلا يمكن رسم خريطة تدخل أو تموقع دون مشاركة أو وجهة نظر جزائرية و التي كانت لآخر لحظة تحبّذ المقاربة الدبلوماسية و إعادة بناء المؤسسات و الدولة في مالي و قادت عمليات كثيرة من الحوار و خاصة مع أنصار الدين ، و لكن تسارع الأحداث أدى إلى قلب المعادلة و بالتالي اللجوء إلى التدخل العسكري إنطلاقا من القرار الأممي الصادر في شهر ديسمبر 2012 رقم 2085 ..
و منه إنطلقت فرنسا في بدء هجوماتها على شمالي مالي ثم تلتها قوات "الاكواس" الإفريقي مما أدى إلى تحرير العديد من المناطق في كيدال و غاو و تمبكتو ،، و لكن في المقابل تتناقل بعض وسائل الإعلام أنباء عن حدوث انتهاكات عرقية في حق العرب و البيض تحديدا كعمليات إنتقام و هذا انطلاقا من تقارير واردة من مناطق الصراع ، مما جعل التيارات المتشددة تتراجع و تحاول ان تعتمد حرب عصابات لم تنجح بعد ،،محاولة مباغتة القوات الفرنسية و الإفريقية .و امتدت إلى عمليات إنتحارية على طريقة القاعدة و توقيعها .
و من نافلة القول أن تنظيم القاعدة و غيره من الحركات التي خسرت نفوذها في المنطقة قد تغيّر من إستراتيجيتها أو تتراجع إستراتيجيا و هذا ما عرف على هذا التنظيم .
و الواقع أن الغوص في أدبيات هذا التنظيم يؤكّد على بعد خطير جدا في التصور و الجهاد فكرا و ممارسة فعلية والذي استطاع أن يؤسس تنظيما اخطبوطيا سريا و نظاما عسكريا كانت له معارك كبيرة جدا في أفغانستان و باكستان و غيرها من مناطق العالم ,,
لكن السؤال المهم ما هو تأثير هذه الأحداث على الجبهة الجنوبية للجزائر ،و على الجزائر عامة و خاصة أن الجزائر كانت تتخوف من نقل الصراع إلى داخلها و بالتالي أفغنة المنطقة ؟ و هل يمكن لبعض القوى أن تتقاسم صفقات و مصالح داخل أراضي مالي و خاصة بعد إكتشاف الثروات الطبيعية التي تزخر بها من جهة؟ و من جهة ثانية ألا يمكن القول أن مالي تحولت في عمليات إدارة الاستراتيجيات العسكرية من هدف إلى وسيلة للسيطرة على المنطقة ؟ و خاصة أن الجزائر كانت ذات مواقف ثابتة جراء ما وقع من أحداث في كل من ليبيا و تونس و على إعتبار أن الجزائر شريك إستراتيجي للغرب في العلاقات الاقتصادية مع العلم أن تقلص نفوذ بعض الدول الغربية اقتصاديا مقابل الصين و تركيا و روسيا جعلها تتحرك بسرعة في مالي ،و في حين أن المغرب هو حليف تقليدي و بالتالي أصبح الطوق محكما على الجزائر بقوى لها علاقات وطيدة مع الغرب ، بعد التغيرات الإستراتيجية مما سيؤدي دون ريب إلى إعادة الحسابات في التعامل مع واقع المنطقة و رسم أهداف جديدة للأمن القومي بتغير القوى الحاكمة ،لأنه كما يبدو ليس مهما تغيير الخارطة السياسية أو حتى الديمغرافية بقدر ما هو مهم ترتيب أوليات الاستراتيجيات الأمنية ، و بالتالي يبقى الموقف الجزائري لحد الساعة على ما يبدو متوازنا في التعامل مع أزمات دول الجوار ،، و لكن في المقابل يستوجب دراسة إستشفافية و مستقبلية للتغيرات الطارئة و مدى التعاون أو التفاعل سلبا أو إيجابا لهذه الدول مع الجزائر ,
و كذلك ليس مستغربا أن هذا التغيير الخارجي ستكون له تداعيات على الأوضاع الداخلية إنطلاقا من محاولات سابقة لأختبار مدى قوة و بنية الدولة الجزائرية و مؤسساتها السياسية و المجتمع المدني من خلال ما أطلق عليه الربيع العربي و الذي يبدو أنه تحوّل إلى شتاء يعتريه خريف معتم بالغيوم و الفوضى على أمل التغيير للأفضل ،، لأن جدلية التغيير تنطلق من العقول و الفكر ثم الممارسات و السلوك و بناء إستراتيجيات للتحول الديمقراطي أي الانتقال الثوري و الديمقراطي و من ثمة التحول إلى الديمقراطية أي بناء المؤسسات الديمقراطية و الممارسات الفعلية للفعل الديمقرطي ، و هذا ما لم يحدث بعد في ما أطلق عليه دول الربيع العربي و نأمل أن يكون مستقبلا ، و قد إستطاعت الجزائر إدراك هذه المتغيرات لأنها خاضت تجربة العشرية السوداء ، و من ثمة فإن ديناميكية العمل السياسي مع ما يعتريها من نقائص راهنت على التغيير السلمي و الذاتي بدل الفوضى و تبقى المراهنة الجادة على التغيير الذاتي و شروطه ،، و هذا إنطلاقا من حكمة يجهل قائلها،، تقول : " أن تكسر البيضة من داخلها معناه ولادة جديدة ،، أما أن تكسر البيضة من خارجها فمعناه القضاء على حياة كانت ستولد ".