يبدو أن وصول الاسلاميين إلى سدة الحكم في بلاد ما اطلق عليه الربيع العربي حاليا في كل من تونس و مصر و ليبيا و بصورة أقل حدة في المغرب و لربما مستقبلا في بلاد عربية أخرى لم يكن مصادفة على الاطلاق إنما نتيجة موضوعية و تحصيل حاصل لحراك اجتماعي و سياسي استمر لعقود من الزمـــــن و هو في ذات الوقت تحصيل حاصل لفعل تنظيمي متماسك ، على الرغم من وجود عقبات كبيرة على مرّ العقود و على الرغم من تنكيل هذه الأنظمة القمعية التي تجاهلت كل سنن التغيير و لم تأخذ بمنهجية علمية و بميكانيزمات التغير و التكيف، و بذلت كل ما في وسعها لاستحداث منهجيات جديدة و مبدعة في القمع و التســـلط و أساليب الهيمنة بدل تحديث أنظمتها و التأقلم مع روح العصر من تعددية و حرية و عصرنة فكان مصيرها السقوط و التداعي امام ثورات الشارع العربي المتأجــج . و مع الوصول إلى مرحلة جديدة من تقلّد السلطة يبدأ معترك الصراع و إثبات الوجود ، فهل تتمكن هذه الحركات و التنظيمات من إثبات وجودها و العمل على التأقلم مع التطورات الحاصلة في الداخل و الخارج و في ذات الوقت التفاعل إيجابيا في العملية الديمقراطية من خلال إتاحة الفرصة للبقية من المعارضة و غيرها من فاعليات المجتمع المدني في المشاركة السياسية و صناعة القرار أما أنها سترتكس إلى النظرة الأحادية و التسلط بطريقة جديدة و هي التي عانت من ويلات الاستـــــــــبداد و التسلط ؟ و ما موقف القوى الكبرى و المحيط العالمي منها و في التعـــامل معها ، و إلى أي حد يمكن أن تجتاز المراحل الانتقالية إلى مسار إرساء دعائم الديمقراطية ؟ هذه التساؤلات و غيرها يمكن أن ترسم معالم المستقبل لهذه التنظيمات و لهذه البلدان ، بل و كذلك للبلدان المحيطة بها .
في الواقع لم تكن جدلية الوصول إلى السلطة و انتهاج المسار الديمقراطي بالإشكالية السهلة لمدة عقود من الزمن في البلاد العربية ، بدل كانت مسألة السلطة في التاريخ العربي الضارب في القدم محلّ صراع و اقتتال ، و في مختلف الفترات الزمنية المتعاقبة و كذا الحال في الوقت الحاضر حيث تتم عملية تطبيق معايير و مؤشرات الديمقراطية وفقا لمنظور الحاكم و تمتد إلى تطبيق نوع من القطيعة النظرية و السلوكية بين الحاكم و المحكوم و تفعيل الديمقراطية وفق منهج صوري يتناغم ايجابا مع السلطة الحاكمة و يمارس كل أشكال و آليات الفاعلية السياسية و الاجتماعية و يمارس اشكالا من القمع السياسي بطريقة ممنهجة و قانونية مما جعل المعارضة مهمّشة و لا تجد لها وزنا ، و تنقطع إلى العمل التنظيمي السري و خاصة الاسلامية منها في البلاد العربية التي انتهجت الديكتاتورية و أصبحت أنظمتها بوليسية لا تجد لمفهوم الحوار و التفاهم سبيلا ، و من هنا كانت المشاركة السياسية لهذه التنظيمات و الأحزاب شكلية إن وجدت اصلا ,, و لا ترى في الخلاص من هذا القمع إلا بالثورة ، و لكنها نظرا لأساليب المراقبة و القمع ضدها لم تجرؤ يوما ما على الثورة أو الانتفاضة ، بل الشارع العربي و الشباب الذي سئم من واقعه أمام انفتاح عالمي كبير على المواقع الاجتماعية و الذي تخطى كل الحدود الجغرافية الضيقة ليصنع لنفسه عالما افتراضي عجزت الأنظمة المتآكلة على مراقبته او التحكم فيه ، و كانت هذه نقطة التحول الرئيسة في البلاد العربية .
و انطلاقا من هذه الفرضية فإن الشباب العربي هو الذي فجّر هذه الانتفاضات و كانت عملية الاحتضان و لربما كما يقول البعض ركوب الموجة من قبل بقية التنظيمات و الحركات و الأحزاب و حتى الفاعليات في محاولة منها لإعادة تنظيم الحياة السياسية انطلاقا من القاعدة الشعبية و الدخول في العملية الديمقراطية من انتخابات و ما يتبعها .
لقد أصبح الواقع السياسي مغايرا تماما لما كانت عليه بلاد الربيع العربي خاصة بالأمس من حيث طبيعة النظام السياسي و إن كان سقوط رؤوس الأنظمة سيؤدي لاحقا إلى تغييرات كبيرة في هذه البلاد و هذا ما حدث فعلا في تونس حيث استطاع حزب النهضة أن يصل إلى الفوز بالأغلبية في المجلس الوطني التأسيـــــس و الظفر بشعبية منقطعة النظير على الرغم من انه كان محظورا و عــــانى الويلات و الأمرين في النظام السابق ، هذا الحزب الذي أكّد أكثر من مرّة على أنه معتدل في توجهاته داخليا و خارجيا , و لعلّ هذا ما يمثّل تطمينات للفاعليات الداخلية حتى تثق في هذا الحزب الذي أثبت فعلا أنه الأكثر تنظيما و شعبية أكثر حتى من أحزاب عملت في الساحة السياسية لمدة عقود و ما هو ما يؤكّد التفاف القاعدة الشعبية حوله ، و في الوقت ذاته وجه رسالة للخارج على انه سيتعامل بانفتاح مع القوى الكبرى حتى لا يدع مجالا للتخوف من الاسلاميين و هذا امر طبيعي و مشروع ، و لكن هل سيبقى هذا التيار على مساره حتى بعد تمكنه من السلطة و لربما الفوز بالمقعد الرئاسي الذي آل في المرحلة الانتقالية لحزب ديمقراطي بتوافق و التفاف مع بقية التيارات و الفاعليات ، هذا التساؤل جديرة الأيام بالإجابة عليه ، لأن من يمارس السلطة ليس كالمعارض و العكس صحيح فناحية الادراك و المدركات تختلف بين الجانبين ، و لربما نجاح حزب العدالة و التنمية في تركيا يؤكد أنه لامجال للتخوف من هذه الأحزاب التي فقعت آليات التعامل مع الســـاحة السياسية و اللعبة السياسية ، و لكن قد تختلف بيئة الممارسة السياسية. و ستكون النقطة الفاصلة لهذه الأحزاب سواء في تونس او مصر أو غيرهما هي مدى إدراكها لضرورة التفاعل ايجابيا مع كافة التيارات و لرما النقطة الأهم هي صناعة القرار بالاتفاق و هي مرحلة متقدمة من الديمقراطية ، كما أن مواجهة إشكاليات التنمية سواء البشرية أو الاقتصادية سيخلق تحديا في بناء إنسان قادر من خلال منظومة فكرية و سياسية و اقتصادية على الانجاز و الابداع و التفوق .
إن البون شاسع بين نظرة الأمس و اليوم للإسلاميين في الغرب ، فقد أصبح هناك تصنيف عملي و واقعي يرتكز على أسس منهجية بين الاسلاميـين المعتدليــن و المتشددين فلحد الساعة كان تفوق التيارات الاسلامية المعتدلة و التي تتقارب في أفكارها و نظرياتها من الاخوان المسلمين و تحديدا تمتد في مرجعيتها إلى حسن
البنا ، الذي استطاع فعلا ان يعدّ لبنات تمتد إلى عقود بعيدة جدا من الزمــــــــــــــــن و استطاعت ان تتخذ من الوسطية منهجا لها ، لا و بل ان تتفاعل مع مختلف الحقب الزمنية و التي تتميّز باقترابها من الطبقات الوسطى و مــــــــــــــــن الفكر المتحرر
و استطاعوا أن يتحالفوا حتى مع الشيوعيين ناهيك عن الديمقراطيين و الليبراليين .
و استطاعوا بالفعل في مصر من التمثيل النيابي و اكتسبوا الخبرات المتراكمة رغم المعاناة الكبيرة التي مرّت بهم و عليهم ، و لكن هل سينفردون بالسلطة لوحدهم ؟ حتما ستكون التيارات الديمقراطية و العلمانية في المقابل و لربما راهنت بعض القوى سواء الداخلية أو الخارجية على خلق نوع من التوازن ، و في المقابل سيحاول السلفيون التحالف مع بقية التيارات الاسلامية المعتدلة مثلما حدث حاليا في مصر .
و هو الذي قد يؤثر على المنطقة بأسرها ، فالحراك الاجتماعي و السياسي وصل إلى مرحلة بعيدة من المخاض و الارهاصات التي تنبئ بضرورة التغيير نظرا للتحول الاجتماعي الكبير فكرا و ممارسة كما أن ظهور نخبة سياسية و ثقافية جديدة في هذه المجتمعات استطاعت أن تتبنى و تقود مثل هذه الانتفاضات قد ساهم في التحوّل
و التطور و التغيير.
فالخارطة السياسية للبلاد العربية تفرض حتما وجود تحديثات
و اصلاحات حتى لا تفوت الأنظمة السياسية القائمة فيها قاطرة الزمن ،ليس فحسب الاصلاحات السياسية و لكن كذلك الاقتصادية و الاجتماعية و التي لا يمكن ان تكون مثمرة و فاعلة إن لم تستند إلى مرجعية فكرية متوازنة تعمل على تكوين نخبة ثقافية و فكرية تقود القاطرة إلى الأمام و في النهاية بغض النظر عن الفائز في المعترك الديمقراطي فإن الصندوق هو الذي سيقرر ،لكن ليس أي صندوق ، الصندوق النزيه ، و ليس الذي يحاك على مقاس فئة أو سلطة ، لأنها في النهاية ستواجه إن لم تنتهج مبدأ التداول و التغيير انتفاضات و إرهاصات لثورة فد تجهل نتائجها .
و القول بنجاح حزب العدالة و التنمية في تركيا لا يعني بالضرورة حكما مطلقا ينطبق على كل بلاد العالم الاسلامي او العربي لأن الذي يحقق الانجازات
و النجاح الأفراد و الجماعات و ليست النظريات و الأفكار المجرّدة ، و لذا قد تبدو الإرادة داعما رئيسيا و لكن الأهم هو السلوك المعتدل و الراشد من قبل الحاكم و المحكوم .